الادمان طريق الانتحار الرسمي.. وموت الأحاسيس والضمير والجسد
الأرقام لا تكذب.. بل تقدم لنا الحقائق من دون رتوش.. وفي مجال مكافحة الادمان جاءت الاحصاءات الرسمية برقم خطير ومذهل يدعو الي وقفة حاسمة وجادة من قبل الاجهزة الدولية لمكافحة هذه الظاهرة الخطيرة.. تقول الاحصائية التي صدرت مؤخرا ان (16) مليار جنيه تنفق في مصر وحدها علي الادمان.. ولخطورة هذه الظاهرة وضرورة مواجهتها اتخذت بعض الاجراءات في مصر للحد من تفاقمها ومن هذه الاجراءات : متابعة مشكلة المخدرات علمياً وما يتم بشأنها من حلول للمكافحة مع تقديم افكار جديدة لمواجهتها محليا تتناسب مع المجتمع المصري.. التأكيد علي ضرورة تعميق الاحساس بخطورة ومساحة المشكلة علي المستوي القومي باعتبار ان المشكلة تهم كل المجتمعات وليس الافراد المتعاطين اوالمدمنين فقط.. تناول ابعاد وعوامل ومخاطر المخدرات بصورة شاملة وتعبئة الجهود.
كما اكدت هذه الاجراءات اهمية العمل الوقائي في مجال التعاطي والادمان كعمل استراتيجي مهم لمحاصرة الظاهرة وتفنيد الشائعات المزعومة لتعاطي المخدرات والتي تساعد علي انتشارها والاقبال عليها.. وضرورة الاكتشاف المبكر لحالات التعاطي لمحاصرة هذه الظاهرة.. بالإضافة الي ذلك يجب التعامل مع المتعاطي والمدمن كمريض قابل للشفاء وتوفير فرص علاجه وجعلها في متناوله.
هذا نموذج لظاهرة الادمان وكيفية مواجهتها في مصر، اما علي الصعيد الدولي فقد جرت العادة علي محاربة ومصادرة هذه السموم.. عن طريق الاجراءات الدولية القانونية بحق الدول والاشخاص الذين يزرعون ويتاجرون بالمخدرات..
وفي هذا التحقيق نسلط الضوء علي ظاهرة الادمان وخلفياتها التاريخية ونشأتها ومتعاطيها..
المعروف ان الحضارات القديمة من صينية وسومرية واغريقية ورومانية قد عرفت جميعا الافيون واستعملته لتخفيف آلام المرضي. بل وللتحشيش ايضا في المناسبات الخاصة. كما عرف الهنود الحمر اكثر من مائة وثلاثين نوعا من النباتات المخدرة في امريكا اللاتينية واستعملوها عند الحاجة. ولكن خطر معظم المخدرات ظل قليلا نسبيا، الي ان تلقفتها المانيا العربية، وحولتها الي سم زعاف تزيد قدرته علي القتل اضعاف اضعاف ما كانت عليه.
ففي اوائل القرن التاسع عشر نجح الصيدلي الالماني فردريخ زرنينو (وكان في العشرين من عمره) في عزل واستخراج المادة الفعالة في الافيون وسماها المورفين. وفي عام 1859 نجح الكيميائي الالماني البرت نيمان في معالجة اوراق نبات الكوكا كيميائيا واستخرج منه مادة الكوكايين فتلقفت الاختراع شركة ميرك وصارت تنتج الكوكايين بكميات تجارية. وفي عام 1889 نجحت شركة المانية اخري هي شركة سبايير (منتجة الاسبرين) في معالجة الكوكايين بالحمض الاسيتي واستخرجت منه مادة قوتها ستة اضعاف قوته هي الهيروين.
وطرحت الشركة الهيروين في الاسواق علي اساس انه دواء للسعال لا يؤدي الي الادمان. وقد سحب الهيروين من الاسواق بعد ذلك بستين عاما. ومنع استعماله قانونيا في جميع انحاء العالم. ومع هذا ، تقول ادارة مكافحة المخدرات الامريكية انه ينتج منه حاليا حوالي مائة طن سنويا.
وتجدر الاشارة هنا الي انه لا يمكن انتاج الهيروين بدون الحمض الاسيتي وان لجنة الامم المتحدة المختصة بمكافحة المخدرات وجدت ان تسعين بالمائة مما يستعمل بصورة غير شرعية من هذا الحمض كانت تنتجه في اوائل الثمانينيات شركة واحدة هي شركة ميرك الالمانية، كذلك كان الالمان اول من نجح في استخراج مادة ل.س.د المهلوسة من فطر لاغورت.
ومع هذا فان ادمان المخدرات لم يبدأ علي نطاق واسع في المانيا الغربية الا قبل عشرين سنة ولم تبدأ المكافحة الجدية الا في اواخر السبعينيات، اما في اوائل ذلك العقد فكان الاعتقاد الشائع هو ان المشكلة ستحل نفسها بنفسها وتختفي من تلقائها لان كل مدمني الهيروين سيموتون كالكلاب علي حد تعبير رودلف كلين رئيس عيادة الاعصاب في برلين الغربية، في عام 1970.
ولم يتوقف الامر عند عدم اختفاء المشكلة، بل انها صارت تتزايد حتي حل الرعب بالمجتمع الالماني حين ادي الادمان الي تزايد الوفيات بين متعاطيه.
وقد بلغ من جزع المسؤولين آنذاك ان طلب فولفجانج هكمان الذي كان رئيس دائرة علاج المدمنين في برلين الغربية قبل توحيد الالمانيتين فحص بول جميع الطلبة سنويا بمجرد بلوغهم الثانية عشرة من اعمارهم كي يتم اكتشاف متناولي المخدرات في المرحلة المبكرة قبل ان يتمكن الادمان منهم. وحين رفضت السلطات الفكرة استقال المسؤول.
وبعد ست سنوات من هذه الحادثة يجد المرء ان المجتمع الالماني مازال يسعي حتي اليوم الي ايجاد العلاج الفعال لايقاف انتشار المخدرات في المجتمع، وفي هذه الاثناء تحولت السوق الالمانية من سوق لسد حاجة المدمنين القدامي الي سوق مربحة جدا يتنافس فيها التجار علي اجتذاب الزبائن الجدد ودفعهم الي الادمان. حتي ان عدد المتعاطين الجدد بلغ في العام الماضي خمسة الاف شخص.
وفي هذه الاثناء ايضا تحركت السلطات وسنت قوانين ضد تناول المخدرات تعتبر الاكثر حزما في المنطقة. لكن هذه القوانين لم تشكل حاجزا منيعا ضد المزيد من الادمان، حتي ان رئيس دائرة الشرطة الجنائية الالمانية هاينرخ بوج يحذر من ان عدد المدمنين آخذ في الارتفاع وان الشرطة تقدر ان في السوق الالمانية حوالي عشرة اطنان من الامفيتامين والكوكايين. ومثل هذه الكمية سنويا من الهيروين ومئات الاطنان من الحشيش والماريوانا ومئات الاف حبوب ل.س.د. وملايين حبوب المهيجات والمهدئات.
الشباب هم الفريسة
اما خبير مكافحة المخدرات في هامبورغ هانس بيرجمان فيري ان الخطر كل الخطر يكمن في انه لم يعد من المستغرب ان يكون المدمن بالحقن في الخامسة عشرة من عمره. كما يقول سفيرنر بانزر رئيس مكتب ارشاد الشباب في شتوتغارت والمنشغل بمكافحة المخدرات منذ عام 1972 انه لم ير في حياته أسوأ من الوضع الذي تمر فيه المانيا حاليا.
فقد نظم تجار المخدرات السوق بدقة. وصار بامكانهم الوصول حتي الي الصفوف في المدارس مما دفع الشرطي هيربرت هابل الي القول انه لم يعد بامكان اي مدرسة المانية ان تدعي خلوها من المخدرات . وتتم توسعة السوق، كما تقول الشرطة، عن طريق اهداء الشاب او الفتاة اول جرعة من الهيروين مثلا، وعن طريق تخفيض سعره كثيرا في الفترة الاولي (بحيث يبيعون ربع الجرام بحوالي عشرة دولارات بينما سعره العادي اكثر من ثلاثين دولارا).
وحين يسقط الشاب في الفخ ولا يستطيع دفع ثمن المزيد، يضطر الي ارتكاب الجرائم كالسرقة او القتل للحصول علي المال، او الي بيع جسده بأبخس ثمن للحصول علي ثمن جرعة المخدر. او الي التحول من مجرد مدمن الي مدمن بائع اذ يجبره التجار الكبار علي احضار زبائن جدد من اصدقائه ليحصل علي جرعته، حسبما تقول صحيفة دير شبيغل الاسبوعية.
وتقع في المانيا الغربية اليوم محاولة كسر سيارة لسرقة محتوياتها مرة كل خمس واربعين ثانية، ومحاولة سرقة منزل مرة كل ثلاث دقائق. كما تزداد محاولات سرقة البنوك وتزوير الشيكات يوميا. والمجرمون في هذه الحوادث هم في معظمهم مدمنو مخدرات حتي ان رئيس شرطة يريمن هربرت شيفر يقول ان كل مدمن مخدرات الماني يرتكب يوميا خمسة افعال علي الاقل تضعه تحت طائلة القانون، وان ثلاثة من كل عشرة مدمنين يقبض عليهم يكونون عادة مسلحين.
وليس المجتمع وحده هو الضحية. فالمدمنون ايضا ضحايا للمخدرات. وفي حين تشير السجلات الرسمية الي ان المخدرات قضت في السنوات العشر الاخيرة علي سبعة الاف شخص. وتقول صحيفة دير شبيغل نقلا عن بعض رجال الشرطة ان هذا العدد لا يمثل سوي ثمن العدد الحقيقي.. اي ان عدد الذين قتلهم الادمان علي المخدرات من الألمان بلغ في العقد الاخير اكثر من خمسة وخسمين ألف شخص.
اما مسؤول الصحة في دسلدورف هيرمان هاينمان فيقول ان واحداً من كل خمسة من المدمنين القدامي يموت لانه اراد الانتحار.. ومما يثبت صحة قوله ان معظم المائة والثلاثين مدمنا الذين ماتوا في مقاطعة نوردراين تستفالن في العام الماضي تركوا رسائل جاء فيها انه لم يعد بامكانهم احتمال الحياة مع المخدر.